فصل: الآية رقم ‏(‏46 ‏:‏ 47‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 سورة الروم

بسم الله الرحمن الرحيم

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏ 7‏)

{‏ الم ‏.‏ غلبت الروم ‏.‏ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ‏.‏ في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ‏.‏ بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ‏.‏ وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ‏.‏ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ‏}

نزلت هذه الآيات حين غلب الفرس آخر ملوك الفرس الذي قتل زمن عثمان بن عفان هو‏:‏ يزدجر بن شهريار، وهو الذي كتب له النبي صلى اللّه عليه وسلم يدعوه للإسلام، فمزق الكتاب، فدعا عليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يمزقوا كل ممزق على بلاد الشام، وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، فاضطر ملك الروم حتى لجأ إلى القسطنطينية وحوصر فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل كما سيأتي‏.‏ عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل الكتاب، فذكر ذلك لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(أما إنهم سيغلبون‏)‏، فذكره أبو بكر لهم، فقالوا‏:‏ اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجل خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ألا جعلتها إلى دون العشر‏؟‏ ثم ظهرت الروم بعد، قال فذلك قوله‏:‏ ‏{‏آلم * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون‏}‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما‏"‏‏.‏ حديث آخر‏:‏ عن مسروق قال، قال عبد اللّه‏:‏ خمس قد مضين‏:‏ الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم ‏"‏أخرجاه في الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود موقوفاً‏"‏‏.‏ وعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ كانت فارس ظاهرة على الروم، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، وهم أقرب إلى دينهم، فلما نزلت‏:‏ ‏{‏آلم * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد عليهم سيغلبون في بضع سنين‏}‏ قالوا‏:‏ يا أبا بكر إن صاحبك يقول‏:‏ إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين، قال‏:‏ صدق، قالوا‏:‏ هل لك أن نقامرك، فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين فمضت السبع، ولم يكن شيء، ففرح المشركون بذلك، فشق على المسلمين فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ما بضع سنين عندكم‏)‏‏؟‏ قالوا دون العشر، قال‏:‏ ‏(‏اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل‏)‏ قال‏:‏ فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس، ففرح المؤمنون بذلك وأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏آلم * غلبت الروم - إلى قوله تعالى - وعد اللّه لا يخلف اللّه وعده‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم والترمذي قريباً منه‏"‏‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ لقي المشركون أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وقالوا‏:‏ إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏آلم * غلبت الروم في أدنى الأرض - إلى قوله - ينصر من يشاء‏}‏ فخرج أبو بكر الصدّيق إلى الكفار فقال‏:‏ أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا، فلا تفرحوا ولا يقرن اللّه أعينكم، فواللّه ليظهرن اللّه الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا صلى اللّه عليه وسلم، فقام إليه أبي بن خلف فقال‏:‏ كذبت يا أبا فضيل، فقال له أبو بكر‏:‏ أنت أكذب يا عدو اللّه، فقال‏:‏ أناجيك عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره فقال‏:‏ ‏(‏ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في خطر، ومادَّه في الأجل‏)‏، فخرج أبو بكر، فلقي أبياً فقال‏:‏ لعلك ندمت‏؟‏ فقال‏:‏ لا، تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال‏:‏ قد فعلت، فظهرت الروم على فارس قبل ذلك فغلبهم المسلمون‏.‏

ولنتكلم على كلمات هذه الآيات الكريمات، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏آلم * غلبت الروم‏}‏ قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور في أول سورة البقرة، وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم، ويقال لهم بنو الأصفر، وكانوا على دين اليونان، واليونان من سلالة يافث بن نوح أبناء عم الترك، وكانوا يعبدون الكواكب السيارة، وهم الذين أسسوا دمشق وبنوا معبدها، فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلثمائة سنة، وكان من ملك منهم الشام مع الجزيرة يقال له قيصر ، فكان أول من دخل في دين النصارى من الروم قسطنطين ، وأمه

مريم الهيلانية من أرض حَّران كانت قد تنصرت قبله فدعته إلى دينها، وكان قبل ذلك فيلسوفاً، فتابعها، واجتمعت به النصارى وتناظروا في زمانه مع عبد اللّه بن أريوس، واختلفوا اختلافاً كثيراُ لا ينضبط، إلا أنه اتفق جماعتهم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفاً، فوضعوا لقسطنطين العقيدة،

وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة وإنما هي الخيانة الحقيرة، ووضعوا له القوانين يعنون كتب الأحكام من تحريم وتحليل وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وغيّروا دين المسيح عليه السلام، وزادوا فيه ونقصوا منه، فصلوا إلى المشرق، واعتاضوا عن السبت بالأحد، وعبدوا الصليب، وأحلوا الخنزير، واتخذوا أعياداً أحدثوها، كعيد الصليب والقداس والغطاس وغير ذلك من البواعيث والشعانين، وجعلوا له الباب وهو كبيرهم، ثم البتاركة، ثم المطارنة، ثم الأساقفة والقساوسة، ثم الشمامسة، وابتدعوا الرهبانية، وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية، يقال‏:‏ إنه بنى في أيامه اثني عشر ألف كنيسة، وبنى بيت لحم بثلاث محاريب، وبنت أمه القمامة، وهؤلاء هم الملكية، يعنون الذين هم على دين الملك، ثم حدثت اليعقوبية أتباع يعقوب الأسكاف ثم النسطورية أصحاب نسطورا، وهم فرق وطوائف كثيرة، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنهم افترقوا على اثنين وسبعين فرقة‏)‏‏.‏ والغرض أنهم استمروا على النصرانية كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى كان آخرهم هرقل وكان من عقلاء الرجال، ومن أحرم الملوك وأدهاهم وأبعدهم غوراً وأقصاهم راياً، فتملك عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كثيرة، فناوأه كسرى ملك الفرس، وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر، وكانوا مجوساً يعبدون النار، فتقدم عن عكرمة أنه قال‏:‏ بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكسره وقصره حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه، ولم يقدر كسرى على فتح البلد ولا أمكنه ذلك لحصانتها، لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من ناحية البحر، فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هنالك، ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين وهي تسع، فإن البضع في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏للّه الأمر من قبل ومن بعد‏}‏ أي من قبل ذلك ومن بعده، ‏{‏ويؤمئذ يفرح المؤمنون بنصر اللّه‏}‏ أي للروم أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى، وهم المجوس، وكانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قول طائفة كثيرة من العلماء كابن عباس والثوري والسدي وغيرهم، وقد ورد في الحديث عن أبي سعيد قال‏:‏ لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين ففرحوا به، وأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ويؤمئذ يفرح المؤمنون بنصر اللّه ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم‏}‏ ‏"‏أخرجه الترمذي وابن أبي حاتم والبرار‏"‏، وقال الآخرون‏:‏ بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية يروى هذا القول عن عكرمة والزهري وقتادة وغيرهم ، والأمر في هذا سهل قريب، الإ أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين، فلما انتصرت الروم على فارس فرح المؤمنون بذلك لأن الروم أهل كتاب في الجملة فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى - إلى قوله - ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين‏}‏‏.‏ وقال تعالى ههنا‏:‏ ‏{‏ويؤمئذ يفرح المؤمنون بنصر اللّه ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم‏}‏، عن العلاء بن الزبير الكلابي عن أبيه قال‏:‏ رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم كل ذلك في خمس عشرة سنة ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو العزيز‏}‏ أي في انتصاره وانتقامه من أعدائه، ‏{‏الرحيم‏}‏ بعباده المؤمنين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعد اللّه لا يخلف اللّه وعده‏}‏ أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد من اللّه حق، وخبر صدق لايخلف، ولا بد من كونه ووقوعه، لأن اللّه قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلتين إلى الحق ويجعل لها العاقبة، ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ أي بحكم اللّه في كونه وأفعاله المحكمة الجارية على وفق العدل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم الغافلون‏}‏ أي أكثر الناس ليس لهم علم الإ بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة، قال الحسن البصري‏:‏ واللّه ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي، وقال ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم الغافلون‏}‏ يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال‏.‏

 الآية رقم ‏(‏8 ‏:‏ 10‏)‏

{‏ أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون ‏.‏ أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ‏.‏ ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون ‏}

يقول تعالى منبهاً على التفكير في مخلوقاته الدالة على وجوده، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، ‏{‏أولم يتفكروا في أنفسهم‏}‏ يعني به النظر والتأمل لخلق اللّه الأشياء، من العالم العلوي والسفلي، وما بينهما من المخلوقات المتنوعة، والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا باطلاً بل بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون‏}‏، ثم نبههم على صدق رسله فيما جاءوا به عنه، بما أيدهم به من المعجزات والدلائل الواضحات، من إهلاك من كفر بهم، ونجاة من صدقهم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يسيروا في الأرض‏}‏ أي بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماع أخبار الماضين، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة‏}‏ أي كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً، ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعماراً طوالاً فعمروها أكثر منكم، واستغلوها أكثر من استغلالكم، ومع هذا فلما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا أخذهم اللّه بذنوبهم وما كان لهم من اللّه من واق، ولا حالت أموالهم وأولادهم بينهم وبين بأس اللّه ولا دفعوا عنهم مثقال ذرة، وما كان اللّه ليظلمهم فيما أحل بهم من العذاب والنكال، ‏{‏ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ حيث كذبوا بآيات اللّه واستهزأوا بها، وما ذاك إلا بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات اللّه وكانوا بها يستهزئون‏}‏، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم‏}‏ أي كانت السوأى عاقبتهم لأنهم كذبوا بآيات اللّه وكانوا بها يستهزئون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏11 ‏:‏ 16‏)‏

{‏ الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ‏.‏ ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ‏.‏ ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ‏.‏ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون ‏.‏ فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون ‏.‏ وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏اللّه يبدأ الخلق ثم يعيده‏}‏ أي كما هو قادر على بداءته فهو قادر على إعادته، ‏{‏ثم إليه ترجعون‏}‏ أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله، ثم قال‏:‏ ‏{‏ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ييأس المجرمون، وقال مجاهد‏:‏ يفتضح المجرمون، وفي رواية يكتئب المجرمون، ‏{‏ولم يكن له من شركائهم شفعاء‏}‏ أي ما شفعت فيهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون اللّه تعالى وكفروا بهم وخانوهم أحوج ما كانوا إليهم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم تقوم الساعة يؤمئذ يتفرقون‏}‏ قال قتادة‏:‏ هي واللّه الفرقة التي لا اجتماع بعدها، يعني أنه إذا رفع هذا إلى عليين وخفض هذا إلى أسفل سافلين، فذلك آخر العهد بينهما، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ ينعمون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏17 ‏:‏ 19‏)‏

{‏ فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ‏.‏ وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ‏.‏ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ‏}

هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة، وإرشاده لعباده إلى تسبيحه وتحميده في هذه الأوقات المتعاقبة، الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه، عند المساء وهو إقبال الليل بظلامه، وعند الصباح وهو إسفار النهار بضيائه، ثم اعترض بحمده مناسبة للتسبيح وهو التحميد، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وله الحمد في السموات والأرض‏}‏ أي هو المحمود على ما خلق في السماوات والأرض، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وعيشاً وحين تظهرون‏}‏ فالعَشاء هو شدة الظلام والإظهار هو قوة الضياء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏والضحى والليل إذا سجى‏}‏ والآيات في هذا كثيرة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ألا أخبركم لم سمى اللّه إبراهيم خليله الذي وفَّى، لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى‏:‏ سبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي‏}‏ هو ما نحن فيه من قدرته على خلق الأشياء المتقابلة، فإنه يذكر خلقه الأشياء وأضدادها ليدل على كمال قدرته، فمن ذلك إخراج النبات من الحب، والحب من النبات، والبيض من الدجاج، والدجاج من البيض، والإنسان من النطفة، والنطفة من الإنسان، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويحيي الأرض بعد موتها‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج‏}‏، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وكذلك تخرجون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏20 ‏:‏ 21‏)‏

{‏ ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ‏.‏ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته‏}‏ الدالة على عظمته وكمال قدرته، أنه خلق أباكم آدم من تراب، ‏{‏ثم إذا أنتم بشر تنتشرون‏}‏ فأصلكم من تراب، ثم من ماء مهين، ثم تصور فكان علقة، ثم مضغة، ثم صار عظاماً، شكله على شكل الإنسان ثم كسا اللّه تلك العظام لحماً، ثم نفخ فيه الروح فإذا هو سميع بصير، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته، حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون، ويدور أقطار الأرض، ويكتسب، ويجمع الأموال، وله فكرة وغور، ودهاء ومكر، ورأي وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة كل بحسبه، فسبحان من أقدرهم وسيّرهم وسخّرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب وفاوت بينهم في العلوم والفكر، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون‏}‏‏.‏ عن أبي موسى الأشعري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏"‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً‏}‏ أي خلق لكم من جنسكم إناثاً تكون لكم أزواجاً ‏{‏لتسكنوا إليها‏}‏، كما قال تعالى‏:‏

‏{‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها‏}‏ يعني بذلك حواء خلقها اللّه من آدم من ضلعه الأيسر، ولو أنه تعالى جعل بني آدم كلهم ذكوراً، وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم، إما من جان أو حيوان، لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس، ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم، وجعل بينهم وبينهن ‏{‏مودة‏}‏ وهي المحبة ‏{‏ورحمة‏}‏ وهي الرأفة ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏22 ‏:‏ 23‏)‏

{‏ ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ‏.‏ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته‏}‏ الدالة على قدرته العظيمة ‏{‏خلق السموات والأرض‏}‏ أي خلق السماوات في ارتفاعها واتساعها، وشفوف أجرامها وزهارة كواكبها، ونجومها الثوابت والسيارات، وخلق الأرض في انخفاضها وكثافة، وما فيها من جبال وأودية، وبحار وقفار وحيوان وأشجار، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واختلاف ألسنتكم‏}‏ يعني اللغات، فهؤلاء بلغة العرب، وهؤلاء تتر، وهؤلاء كرج، وهؤلاء روم، وهؤلاء فرنج، وهؤلاء بربر، وهؤلاء حبشة، وهؤلاء هنود، وهؤلاء عجم، وهؤلاء صقالبة، وهؤلاء أكراد، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا اللّه من اختلاف لغات بني آدم واختلاف ألوانهم، وهي حلاهم فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ خلق اللّه آدم إلى قيام الساعة، كل له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان وليس يشبه واحد منهم الآخر، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام، ظاهراً كان أو خفياً يظهر عند التأمل‏.‏ كل وجه منهم أسلوب بذاته، وهيئة لا تشبه أخرى، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح، لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر ‏{‏إن في ذلك لآيات للعالمين * ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله‏}‏ أي ومن الآيات ما جعل اللّه من صفة النوم في الليل والنهار، فيه تحصل الراحة، وسكون الحركة، وذهاب الكلال والتعب، وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار وهذا ضد النوم، ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون‏}‏ أي يعون، روى الطبراني عن زيد بن ثابت رضي اللّه عنه، قال‏:‏ أصابني أرق من الليل فشكوت ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم، يا حي يا قيوم، أنم عيني، وأهديء ليلي‏)‏ فقلتها فذهب عني ‏"‏أخرجه الطبراني عن زيد بن ثابت‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏24 ‏:‏ 25‏)‏

{‏ ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ‏.‏ ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته‏}‏ الدالة على عظمته أنه ‏{‏يريكم البرق خوفاً وطمعاً‏}‏ أي تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة، وصواعق متلفة، وتارة ترجون وميضة وما يأتي به من المطر المحتاج إليه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها‏}‏ أي بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء، فلما جاءها الماء ‏{‏اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج‏}‏، وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة على المعاد وقيام الساعة، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره‏}‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه يمسك السموات والأرض أن تزولا‏}‏ وكان عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه إذا اجتهد في اليمين قال‏:‏ والذي تقوم السماء والأرض بأمره، أي هي قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها، ثم إذا كان يوم القيامة بدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وخرجت الأموات من قبورها أحياء، بأمره تعالى ودعائه إياهم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون‏}‏ أي من الأرض، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتنم إلا قليلاً‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏26 ‏:‏ 27‏)‏

{‏ وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ‏.‏ وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وله من في السموات والأرض‏}‏ أي ملكه وعبيده ‏{‏كل له قانتون‏}‏ أي خاضعون خاشعون طوعاً وكرهاً، وقوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ يعني أيسر عليه، وقال مجاهد‏:‏ الإعادة أهون عليه من البداءة، والبداءة عليه هينة، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول اللّه تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله‏:‏ لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله‏:‏ اتخذ اللّه ولداً، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد‏)‏ ‏"‏أخرجه البخاري وأحمد‏"‏، وقال آخرون‏:‏ كلاهما بالنسبة إلى القدرة على السواء، وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ كلٌّ عليه هيِّن، وقوله‏:‏ ‏{‏وله المثل الأعلى في السموات والأرض‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ وقال قتادة‏:‏ مثله أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره، قوله‏:‏ ‏{‏وهو العزيز الحكيم‏}‏ وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، بل قد غلب كل شيء، وقهر كل شيء بقدرته وسلطانه ‏{‏الحكيم‏}‏ في أقواله وأفعاله، وعن مالك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وله المثل الأعلى‏}‏ قال‏:‏ لا إله إلا اللّه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏28 ‏:‏ 29‏)‏

‏{‏ ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ‏.‏ بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين ‏}‏

هذا مثل ضربه اللّه تعالى للمشركين، العابدين معه غيره، وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ملك له، كما كانوا يقولون‏:‏ لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك،

تملكه وما ملك، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ضرب لكم مثلاً من أنفسكم‏}‏ أي تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم ‏{‏هل لكم مما مملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء‏}‏ أي أيرضى أحدكم أن يكون عبده شريكاً له في ماله فهو وهو فيه على السواء‏؟‏ ‏{‏تخافونهم كخيفتكم أنفسكم‏}‏ أي تخافون أن يقاسموكم الأموال، قال أبو مجلز‏:‏ إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك وليس له ذاك، كذلك اللّه لا شريك له، والمعنى‏:‏ أن أحدكم يأنف من ذلك فكيف تجعلون للّه الأنداد من خلقه‏؟‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويجعلون للّه ما يكرهون‏}‏ فهم يأنفون من البنات، وجعلوا الملائكة بنات اللّه، فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم فهذا أغلظ الكفر، وهكذا في هذا المقام جعلوا له شركاء من عبيده وخلقه، وأحدهم يأبى غاية الإباء ويأنف غاية الأنفة، من ذلك أن يكون عبده شريكه في ماله يساويه فيه ولو شاء لقاسمه عليه، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، ولما كان التنبيه بمثل هذا المثل على براءته تعالى ونزاهته عن ذلك بطريق الأَوْلى والأحرى، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون‏}‏، ثم قال تعالى مبيناً أن المشركين إنما عبدوا غيره سفهاً من أنفسهم وجهلاً‏:‏ ‏{‏بل اتبع الذين ظلموا‏}‏ أي المشركون ‏{‏أهواءهم‏}‏ أي في عبادتهم الأنداد بغير علم، ‏{‏فمن يهدي من أضل اللّه‏}‏ أي فلا أحد يهديهم إذا كتب اللّه ضلالهم، ‏{‏وما لهم من ناصرين‏}‏ أي ليس لهم من قدرة اللّه منقذ ولا مجير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏30 ‏:‏ 32‏)‏

{‏ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ‏.‏ منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ‏.‏ من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ‏}

يقول تعالى‏:‏ فسدِّدْ وجهك واستمر على الدين الذي شرعه اللّه لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك اللّه لها، وكملها لك غاية الكمال، ولازم فطرتك السليمة التي فطر اللّه الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيد، وأنه لا إله غيره‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تبديل لخلق اللّه‏}‏ قال بعضهم‏:‏ معناه لا تبدلوا خلق اللّه، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم التي فطرهم اللّه عليها، فيكون خبراً بمعنى الطلب، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن دخله كان آمناً‏}‏ وهو معنى حسن صحيح، وقال آخرون هو خبر على بابه، ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة، ولا تفاوت بين الناس في ذلك، ولهذا قال ابن عباس ‏{‏لا تبديل لخلق اللّه‏}‏ أي لدين اللّه، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء‏)‏ ثم يقول‏:‏ ‏{‏فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيم‏}‏ ‏"‏أخرجه البخاري عن أبي هريرة ورواه أيضاً مسلم‏"‏‏.‏ وروى الإمام أحمد عن الأسود بن سريع قال‏:‏ أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وغزوت معه، فأصبت ظفراً‏.‏ فقاتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية‏)‏‏؟‏ فقال رجل‏:‏ يا رسول اللّه أما هم أبناء المشركين‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا إنما خياركم أبناء المشركين، ثم قال‏:‏ لا تقتلوا ذرية، لا تقتلوا ذرية، وقال‏:‏ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في كتاب السير‏"‏، وعن جابر بن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً‏)‏ ‏"‏أخرجه أحمد عن جابر بن عبد اللّه مرفوعاً‏"‏‏.‏

وروى الإمام أحمد عن عياض بن حمار‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته‏:‏ ‏(‏إن ربي عزَّ وجلَّ أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا‏:‏ كل مال نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، ثم إن اللّه عزَّ وجلَّ نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال‏:‏ إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان، ثم إن اللّه أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت‏:‏ رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال‏:‏ استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك‏.‏ قال‏:‏ وأهل الجنة ثلاثة‏:‏ ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف متعفف ذو عيال‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وأهل النار خمسة‏:‏ الضعيف الذي لا زِبْر لازِبْر‏:‏ بكسر الزاي وفتحها‏:‏ أي لا عقل له له، الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لايخفى له طمع - وإن دق - إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك‏)‏، وذكر البخيل والكذاب والشنْظير ‏"‏أخرجه أحمد ومعنى الشنظير‏:‏ السيء الخلق‏:‏ البذيء اللسان‏"‏الفحَّاش‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك دين القيم‏}‏ أي التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ أي فلهذا لا يعرفه أكثر الناس فهم عنه ناكبون، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل اللّه‏}‏ الآية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏منيبين إليه‏}‏ قال ابن جريح‏:‏ أي راجعين إليه ‏{‏واتقوه‏}‏ أي خافوه وراقبوه ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ وهي الطاعة العظيمة ‏{‏ولا تكونوا من المشركين‏}‏ أي بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة لا يريدون بها سواه، قال ابن جرير‏:‏ مر عمر رضي اللّه عنه بمعاذ بن جبل، فقال عمر‏:‏ ما قوام هذه الأمة‏؟‏ قال معاذ‏:‏ ثلاث وهن المنجيات‏:‏ الإخلاص، وهي الفطرة، فطرة اللّه التي فطر الناس عليها، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة، فقال عمر صدقت‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون‏}‏ أي لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم أي بدلوه وغيروه وآمنوا ببعض وكفروا ببعض؛ كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة مما عدا أهل الإسلام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى اللّه‏}‏ الآية، فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء، وهذه الأمة أيضاً اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة، وهم أهل السنّة والجماعة المتمسكون بكتاب اللّه وسنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه، كما رواه الحاكم في مستدركه أنه‏:‏ سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الفرقة الناجية منهم قال‏:‏ ‏(‏من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏33 ‏:‏ 37‏)‏

{‏ وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ‏.‏ ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون ‏.‏ أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ‏.‏ وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ‏.‏ أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ‏}

يقول تعالى مخبراً عن الناس أنهم في حال الاضطرار يدعون اللّه وحده لا شريك له، وأنه إذا أسبغ عليهم النعم إذا فريق منهم يشركون باللّه ويعبدون معه غيره، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليكفروا بما آتيناهم‏}‏ هي لام العاقبة عند بعضهم ولام التعليل عند آخرين‏.‏ ولكنها تعليل لتقييض اللّه لهم ذلك، ثم توعدهم بقوله‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏، قال بعضهم‏:‏ واللّه لو توعدني حارس لخفت منه، فكيف والمتوعد ههنا هو الذي يقول للشيء كن فيكون؛ ثم قال تعالى منكراً على المشركين فيما اختلفوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجة ولا برهان‏:‏ ‏{‏أم أنزلنا عليهم سلطاناً‏}‏ أي حجة، ‏{‏فهو يتكلم‏}‏ أي ينطق ‏{‏بما كانوا به يشركون‏}‏‏؟‏ وهذا استفهام إنكار، أي لم يكن لهم شيء من ذلك، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون‏}‏، وهذا إنكار على الإنسان من حيث هو إلا من عصمه اللّه ووفقه، فإن الإنسان إذا أصابته نعمة بطر، وإذا أصابته شدة قنط وأيس، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات‏}‏ أي صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء، كما ثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏عجباً للمؤمن لا يقضي اللّه له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له‏)‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولم يروا أن اللّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر‏}‏ أي هو المتصرف الفاعل لذلك بحكمته وعدله فيوسع على قوم ويضيق على آخرين، ‏{‏إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏38 ‏:‏ 40‏)‏

{‏ فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون ‏.‏ وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ‏.‏ الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون ‏}

يقول تعالى آمراً بإعطاء ‏{‏ذا القربى حقه‏}‏ أي من البر والصلة، ‏{‏والمسكين‏}‏ وهو الذي لا شيء له ينفق عليه أو له شيء لايقوم بكفايته، ‏{‏وابن السبيل‏}‏ وهو المسافر المحتاج إلى نفقة وما يحتاج إليه في سفره، ‏{‏ذلك خير للذين يريدون وجه اللّه‏}‏ أي النظر إليه يوم القيامة وهو الغاية القصوى، ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ أي في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما آتيتم من رباً ليربو في أموال الناس فلا يربو عند اللّه‏}‏ أي من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم فهذا لا ثواب له عند اللّه، بهذا فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك، وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه، إلا أنه قد نهي عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمنن تستكثر‏}‏ أي لا تعط العطاء تريد أكثر منه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما آتيتم من زكاة تريدون وجه اللّه فأولئك هم المضعفون‏}‏ أي الذين يضاعف اللّه لهم الثواب والجزاء كما جاء في الصحيح‏:‏ ‏(‏وما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب‏)‏، إلا أخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى تصير التمرة أعظم من أُُحُدٍ‏)‏، وقوله عزَّ وجلَّ‏:‏ ‏{‏واللّه الذي خلقكم ثم رزقكم‏}‏ أي هو الخالق الرازق يخرج الإنسان من بطن أمه عرياناً لا علم له ولا سمع ولا بصر ولا قوى، ثم يرزقه جميع ذلك بعد ذلك، والرياش واللباس والمال والأملاك والمكاسب‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم يميتكم‏}‏ أي بعد هذه الحياة ‏{‏ثم يحييكم‏}‏ أي يوم القيامة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل من شركائهم‏}‏ أي الذين تعبدونهم من دون اللّه ‏{‏من يفعل من ذلكم من شيء‏}‏‏؟‏ أي لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك، بل اللّه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، ثم يبعث الخلائق يوم القيامة، ولهذا قال بعد هذا كله ‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏ أي تعالى وتقدس، وتنزّه وتعاظم عن أن يكون له شريك أو نظير، أو ولد أو والد، بل هو الأحد الفرد الصمد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏41 ‏:‏ 42‏)‏

{‏ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ‏.‏ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين ‏}

قال ابن عباس وعكرمة‏:‏ المراد بالبر ههنا الفيافي، وبالبحر الأمصار والقرى، وفي رواية عنه‏:‏ البحر الأمصار والقرى ما كان منها على جانب نهر، وقال آخرون‏:‏ بل المراد بالبر المعروف، وبالبحر هو البحر المعروف، وعن مجاهد ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر‏}‏ قال‏:‏ فساد البر قتل ابن آدم، وفساد البحر أخذ السفينة غصباً، وقال عطاء‏:‏ المراد بالبر ما فيه من المدائن والقرى، وبالبحر جزائره، والقول الأول أظهر وعليه الأكثرون؛ ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس‏}‏ أي بان النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي، وقال أبو العالية‏:‏ من عصى اللّه في الأرض فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة، ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏لَحَدٌ يقام في الأرض أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو داود في سننه‏"‏‏.‏ والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت انكف الناس عن تعاطي المحرمات، وإذا تركت المعاصي كان سبباً في حصول البركات من السماء والأرض؛ ولهذا إذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان، قيل للأرض‏:‏ أخرجي بركتك، فيأكل من الرمانة الفئام الفِئَام‏:‏ الجماعة الكثيرة من الناس ويستظلون بقحفها، ويكفي لبن اللَّقْحة اللَّقْحة‏:‏ الحلوب الجماعة من الناس، وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير، ولهذا ثبت في الصحيحين‏:‏ أن الفاجر إذا مات يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليذيقهم بعض الذي عملوا‏}‏ الآية، أي يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه لهم ومجازاة على صنيعهم ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ أي عن المعاصي، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل‏}‏ أي من قبلكم، ‏{‏كان أكثرهم مشركين‏}‏ أي فانظروا ما حل بهم من تكذيب الرسل وكفر النعم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏43 ‏:‏ 45‏)‏

{‏ فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون ‏.‏ من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ‏.‏ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين ‏}

يقول تعالى آمراً عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته والمبادرة إلى الخيرات ‏{‏فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من اللّه‏}‏ أي يوم القيامة إذا أراد كونه فلا راد له، ‏{‏يؤمئذ يصدعون‏}‏ أي يتفرقون فريق في الجنة، وفريق في السعير، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏من كفر

فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون * ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله‏}‏ أي يجازيهم مجازاة الفضل، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء اللّه ‏{‏إنه لا يحب الكافرين‏}‏ ومع هذا هو العادل فيهم الذي لا يجور‏.‏

 الآية رقم ‏(‏46 ‏:‏ 47‏)‏

{‏ ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ‏.‏ ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين ‏}‏ يقول تعالى نعمه على خلقه، في إرساله الرياح مبشرات بين يدي رحمته، بمجيء الغيث عقبها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وليذيقكم من رحمته‏}‏ أي المطر الذي الذي ينزله فيحيي به العباد والبلاد، ‏{‏ولتجري الفلك بأمره‏}‏ أي في البحر وإنما سيرها بالريح ‏{‏ولتبتغوا من فضله‏}‏ أي في التجارات والمعايش والسير من قطر إلى قطر، ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ أي تشكرون اللّه على ما أنعم به عليكم، من النعم الظاهرة والباطلة التي لا تعد ولا تحصى، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا‏}‏ هذه تسلية من اللّه تعالى ورسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم، بأنه وإن كذبه كثير من قومه، فقد كذبت الرسل المتقدمون، مع ما جاءوا أممهم من الدلائل الواضحات، ولكن انتقم اللّه ممن كذبهم وخالفهم، وأنجى المؤمنين بهم، ‏{‏وكان حقاً علينا نصر المؤمنين‏}‏ أي هو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضيلاً،

كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب ربكم على نفسه الرحمة‏}‏‏.‏ عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على اللّه أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وكان حقاً علينا نصر المؤمنين‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء مرفوعاً‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏48 ‏:‏ 51‏)‏

{‏ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون ‏.‏ وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين ‏.‏ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ‏.‏ ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون ‏}

يبين تعالى كيف يخلق السحاب، الذي ينزل منه الماء، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏اللّه الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً‏}‏ إما من البحر أو مما يشاء اللّه عزَّ وجلَّ، ‏{‏فيبسطه في السماء كيف يشاء‏}‏ أي يمده فيكثره وينميه، ينشيء سحابة ترى في رأي العين مثل الترس، ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق، وتارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالاً مملوءة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً سقناه لبلد ميت - إلى قوله - كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون‏}‏، وكذلك قال ههنا‏:‏ ‏{‏اللّه الذي يرسل الرياح فتثر سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفاً‏}‏، قال مجاهد‏:‏ يعني قطعاً، وقال مجاهد‏:‏ يعني قطعاً، وقال الضحاك‏:‏ متراكماً وقال غيره‏:‏ أسود من كثرة الماء تراه مدلهماً ثقيلاً قريباً من الأرض، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الودق يخرج من خلاله‏}‏ أي فترى المطر وهو القطر، يخرج من بين ذلك السحاب ‏{‏فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون‏}‏ أي لحاجتهم إليه يفرحون بنزوله عليهم ووصوله إليهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كانوا من قبل أن ينزّل عليهم من قبله لمبلسين‏}‏ معنى الكلام‏:‏

أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر، كانوا قانطين من نزول المطر إليهم، فلما جاءهم، جاءهم على فاقة فوقع منهم موقعاً عظيماً، فبعدما كانت أرضهم مقشعرة هامدة، أصبحت وقد اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فانظر إلى آثار رحمة اللّه‏}‏ يعني المطر ‏{‏كيف يحيي الأرض بعد موتها‏}‏ ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن ذلك لمحيي الموتى‏}‏ أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات ‏{‏وهو على كل شيء قدير ‏}‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون‏}‏، يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن أرسلنا ريحاً‏}‏ يابسة على الزرع الذي زرعوه، ونبت وشب واستوى على سوقه ‏{‏فرأوه مصفراً‏}‏ أي قد اصفر وشرع في الفساد ‏{‏لظلوا من بعده‏}‏ أي بعد هذا الحال ‏{‏يكفرون‏}‏ أي يجحدون ما تقدم إليهم من النعم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألإرأيتم ما تحرثون - إلى قوله - بل نحن محرمون‏}‏، قال ابن أبي حاتم عن عبيد اللّه بن عمرو قال‏:‏ الرياح ثمانية‏:‏ أربعة منها رحمة، وأربعة منها عذاب، فأما الرحمة‏:‏ فالناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والذرايات، وأما العذاب‏:‏ فالعقيم، والصرصر - وهما في البر - والعاصف والقاصف وهما في البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة، فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحاً للسحاب تلقحه بحمله الماء كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل، وإن شاء حركه بحركة العذاب، فجعله عقيماً وأودعه عذاباً أليماً وجعله نقمة على من يشاء من عباده، فيجعله صرصراً وعاتياً ومفسداً لما يمر عليه؛ والرياح مختلفة في مهابها، صبَا ودَبُور وجَنوب وشَمال، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف، فريح لينة رطبة تغذي النبات وأبدان الحيوان، وأخرى تجففه، وأخرى تهلكه وتعطبه، وأخرى تسيره وتصلبه، وأخرى توهنه وتضعفه ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن عبيد بن عمرو موقوفاً‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏52 ‏:‏ 53‏)‏

‏{‏ فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ‏.‏ وما أنت بهاد العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها، ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق وردهم عن ضلالتهم، بل ذلك إلى اللّه فإنه تعالى بقدرته يسمع الأموات إذا شاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون‏}‏ أي خاضعون مستجيبون مطيعون، فأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه، وهذا حال المؤمينين، والأول مثل الكافرين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم اللّه ثم إليه يرجعون‏}‏، وقد تواترت الآثار أورد ابن كثير عن ابن أبي الدنيا آثاراً كثيرة عن السلف الصالح تدل على اجتماع أرواح الموتى واستبشارهم بزيارة أخوانهم وأقربائهم لهم وأنهم يحسون ويشعرون بذلك ويأنسون بزيارة الأحياء، وقد ضربنا صفحاً عنها خشية الإطالة بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر؛ فروى ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي اللّه عنها قالت، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم‏)‏، وروي عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ ‏(‏إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام‏)‏ وقد شرع السلام على الموتى، والسلام على من لم يشعر ولا يعلم بالمسلَّم محال، وقد علّم النبي صلى الّه عليه وسلم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا‏:‏ سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء اللّه بكم لاحقون، يرحم اللّه المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل اللّه لنا ولكم العافية، فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد وإن لم يسمع المسلِّم الرد، واللّه أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏54‏)‏

‏{‏ الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ‏}‏

ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق، حالا بعد حال، فأصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يصير عظاماً، ثم تكسى العظام لحماً، وينفخ فيه الروح، ثم يخرج من من بطن أمه ضعيفاً نحيفاً واهن القوى، ثم يشب قليلاً قليلاً حتى يكون صغيراً، ثم حدثاً، ثم مراهقاً، ثم شاباً وهو - القوة بعد الضعف - ثم يشرع في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يهرم وهو - الضعف بعد القوة - فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللمة وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء‏}‏ أي يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد ‏{‏وهو العليم القدير‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏55 ‏:‏ 57‏)‏

{‏ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ‏.‏ وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ‏.‏ فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون ‏}

يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضاً، فمنه‏:‏ إقسامهم باللّه أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العالم والإيمان لقد لبثتم في كتاب اللّه إلى يوم البعث‏}‏ أي فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الأخرة كما أقاموا عليهم حجة اللّه في الدنيا، فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة ‏{‏لقد لبثتم في كتاب اللّه‏}‏ أي في كتاب الأعمال ‏{‏إلى يوم البعث‏}‏ أي من يوم خلقتم إلى أن بعثتم، ‏{‏ولكنكم كنتم لا تعلمون‏}‏، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فيومئذ‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم‏}‏ أي اعتذارهم عما فعلوا، ‏{‏ولا هم يستعتبون‏}‏ أي ولا هم يرجعون إلى الدنيا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏58 ‏:‏ 60‏)‏

{‏ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون ‏.‏ كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون ‏.‏ فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل‏}‏ أي قد بينا لهم الحق ووضحناه لهم، وضربنا لهم فيه الأمثال ليستبينوا الحق بغيره ويتبعوه، ‏{‏ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون‏}‏ أي لو رأوا أي أية كانت، سواء كانت باقتراحهم أو غيره لا يؤمنون بها، ويعتقدون أنها سحر وباطل، كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يطبع اللّه على قلوب الذين لا يعلمون * فاصبر إن وعد اللّه حق‏}‏ أي اصبر على مخالفتهم وعنادهم، فإن اللّه تعالى منجز لك ما وعدك، من نصره إياك عليهم، وجعله العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة ‏{‏ولا يستخفنك الذين لا يوقنون‏}‏ أي بل اثبت على ما بعثك اللّه به، فإنه الحق الذي لا مرية فيه، قال ابن أبي حاتم عن أبي يحيى‏:‏ صلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين‏}‏ فأجابه علي رضي اللّه عنه وهو في الصلاة ‏{‏فاصبر إن وعد اللّه حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير‏"‏‏.‏